المـجتمع المدني
المـجتمع المدني
اهتم فلاسفة العصر الحديث بتعريف المجتمع المدنيّ, وتحديد ملامحه التكوينية التي تميزه عما سواه. محاولين بذلك, تحديد مكانة الفرد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية, وكذلك تحديد مهام الدولة ومسؤولياتها تجاه القضايا نفسها, ومدى فاعليتها في القضايا الأخرى التي تخص المجتمع البشري الحديث. خاصة بعد انتهاء عصر الإمبراطوريات الكبرى, الملكية, الكنيسة والإقطاع التي هيمنت على البشر عصوراً طويلة. لم يقتصر عمل المفكرين عند حد المجتمع المدنيّ أو تعريفه فقط, بل دأبوا على اشتقاق الاصطلاحات, والقيم الكونية, وطابع نظام الحكم, ومشاركة الجمهور في تحديد مزايا المجتمعات التي تناسبهم. على الأقل, بمستوى النظرية والنبوءة, الداعية للبحث عن الخيارات الأنسب والأفضل التي من شأنها أن ترتقي بالمجتمعات وتسعد الإنسان بعد أن تخلصه من الغبن والإجحاف.
من هذا المنطلق, عرّف فلاسفة حركة التّنوير ”المجتمع المدنيّ“ بعدة تعريفات, أهمها; تعريف توماس(1588-1679) هوبس وجون لوك(1632-1704) , تعريف هيجل(ت: 1770) , وكارل ماركس (1818- 1883)... وآخرين: أما أصل التسمية فيعود للمصدر اللاتيني CVITAS- CIVIL SOCIETY.
يعتقد فلاسفة ”العقد الاجتماعي“ وعلى رأسهم توماس هوبس وجون لوك: بان المجتمع المدنيّ هو عكس المجتمع الطبيعي. في الوضع الطبيعي (متخيل) لا توجد حدود للحّرية الشخصية, فباشر الناس حياتهم بحّرية مطلقة, من دون قيود أو تحكم. إلا انه في حقيقة الواقع, لا يمكن للإنسان ضمان بقائه واستمراريته بدون الرجوع إلى مجتمع مدنيّ أو حياة مدنيّة تمنحه الإمكانيات المادية والدعم المعنوي. هؤلاء الفلاسفة, لم يميزوا بين الدّولة وبين المجتمع المدنيّ, فكلاهما كيان واحد غير قابل للانفصام.
ثمّة تطور طرأ على مفهوم "المجتمع المدنيّ" خلال القرن الثامن والتاسع عشر. فلاسفة تلك الحقبة نظروا للمجتمع المدني بشكل مغاير عن فلاسفة العقد الاجتماعي. فبرز التعريف الليبرالي; الدّاعي للفصل بين المجتمع المدنيّ والدولة. برأي الليبراليين كالاسكتلندي آدم سميث (1723-1790): شأن الدولة وموضع اهتمامها, ثلاثة مجالات أساسية وعامة. وكل ما تبقى هو من شأن المجتمع المدنيّ, كالسّوق الحر والاقتصاد. وهنا نلاحظ بداية الفصل بين المجتمع المدنيّ وبين الدولة.
بعد بفترة قصيرة, أشار هيجل ( 1770-1831) إلى ثلاث مراحل تكوينية أساسية من المفروض أن يمر بها المجتمع الإنساني في سبيل نضوجه:
• المرحلة الأولى: مرحلة العائلة, وهي المرحلة الأوليّة والابتدائية للتضامن البشري. التكافل بين أفرادها أمر ضروري في سبيل الأمن الشخصي, العيش, واستمرارية الحياة.
• المرحلة الثانية: مرحلة المجتمع المدنيّ, التي يميزها السوق الحر, والمنافسة الفردية. العلاقات بين الأفراد قائمة على الأنانية, إلا أن هذه العلاقات تعتبر عالمية.
• المرحلة الثالثة: هي مرحلة تبلور الدولة: وبرأيه تعتبر الدولة مصدراً للتضامن البشري العالمي. بهذا المفهوم, يرغب هيجل تقليص دور المجتمع المدنيّ لصالح الدولة, التي تدأب على مصالح الأفراد وتحل محل العائلة, بدورها التقليدي, وتحل محل المجتمع المدنيّ وسيطرته على السوق. انطلاقا من هذه الفرضية يكون هيجل أول من وضع الأساس لمفهوم دولة الرّفاه والضمان الاجتماعي التي عرفت لاحقا.
أما كارل ماركس (1818- 1883): فهو يقبل بالتعريف الليبرالي وتعريف هيجل بالنسبة للمجتمع المدنيّ, لكنه يعتبر هذا التعريف مناسبا للمجتمع الرأسمالي, الذي كان محتكرا للنفوذ الاقتصادي والسياسي في تلك الفترة. واعتقد ماركس أن الدولة هي أداة بيد القوى الاقتصادية وقوى السّوق, مما يحتّم طبقية الصراع بين رأس المال والبرجوازية المسيطرة على قوى الإنتاج ووسائل الإنتاج وبين الطبقة العمالية المُستغلة من قبل البرجوازية. ومع انتهاء هذا الصراع تنبأ ماركس بانخراط الدولة بالكامل في المجتمع المدنيّ ليشكلا كيانا واحدا لمصلحة الجميع, ولتحقيق العدالة المنشودة والمساواة بجميع معانيها بين البشر.
التعريف الراهن للمجتمع المدني, هو الأكثر وضوحا ونضجا مع التشديد على أهميته ودوره في المجتمعات الحديثة والعصرية, خاصة في ظل العولمة والانفتاح, ومع التحولات الكبرى التي شهدها القرن العشرون والقرن الحالي, والتغيير في مفهوم الدولة القومية في مرحلة ما بعد القومية, وعصر ما بعد الحداثة. لهذا يمكننا الإشارة إلى ثلاثة قطاعات أساسية تسيّر حياة المجتمع الآني وهي: السّوق, الدّولة, والمجتمع المدنيّ.
الدولة: هي مصدر للقوة, مهامها أمنية, ودورها الردع والرقابة وتقييد السلطة والجمهور, وتحديد المسموح والممنوع.
السوق: يشمل التبادل التجاري, التسويق, التصدير والاستيراد, السلع, البنوك, الشركات الكبرى والسيطرة على الأموال.
المجتمع المدني: يشمل جميع التنظيمات التي لا تصنف على أنها سوق أو دولة. (أحزاب وحركات سياسية, نوادٍ رياضية أو فنية, جمعيات, نقابات, منظمات أهلية, مراكز توعية, منتديات, مجموعات ضغط, جمعيات تطوعية... وغيرها).
إن الفصل بين هذه القطاعات ليس مطلقا, فالعلاقات التبادلية, والالتباسات والتقاطعات قائمة, ولا بدّ منها. وبالرغم من هذا, فانّ دور المجتمع المدنيّ أصبح أكثر فاعلية وتأثيرا في بناء الأمة الحديثة والمتقدمة. وحالة نشاط أو جمود هذا القطاع مرهون بالديمقراطية الحقيقية التي تشكل سياجا واقيا له. فلا يمكن الوصول إلى انجازات نوعية, يمكن الإشادة بها, بدون إطلاق العنان للعقل البشري, وتفجير الطاقات, والحريات, والإبداع, والتنظيم الجماعي الهادف لتطوير المجتمع ودفعه قدما. بالمقابل; تعتبر الشّمولية الاستبدادية التي تشهدها الكثير من بلدان العالم عدوّا للمجتمعات المدنيّة الفعالة والمؤثرة. حيث يوجد القمع والقهر, والاستبداد, والقيود, والفساد, وتدخّل الدولة في النّافعة والضّارة! في كل شيّء! ومن اجل كل شيّء!. وبالتالي يؤدي بها خوفها (الدولة الشّمولية) من كل تنظيم أو مؤسسة أو جماعة, غير خاضعة لمرادها وأهدافها الاستثنائية, وغير راضخة لها, لمزيد من الرقابة والتسلط والضغط. نتيجة لذلك, تتعرض مؤسسات المجتمع المدني لمحاولات ابتزاز وإخضاع, إما لوضع اليد عليها وترويضها, وإما لتقويض جهودها وفرملة نشاطها وكبحها.
بقلم الأستاذ :
خليل دهابشة .